القاهرة والصهاينة- من مقهى ريش إلى مثقفي كامب ديفيد

قبل تأسيس الكيان الصهيوني على أرض فلسطين عام 1948، كان للقاهرة حضور لافت للصهاينة. اليهود القادمون من أوروبا وجدوا في هذه المدينة محطة عبور نحو "أرض الميعاد"، وفقًا لمعتقداتهم الموروثة وأساطيرهم المتداولة. عُرضت عليهم الجنسية المصرية من قِبَل مصطفى النحاس، رئيس الحكومة الوفدية آنذاك، إلا أنهم رفضوا هذا العرض المغري، وآثروا السفر إلى فلسطين المحتلة، حيث حملوا السلاح وارتكبوا فظائع بشعة ضد أهلنا في يافا وحيفا وطولكرم ومدن أخرى.
المنظمات الصهيونية في مصر كانت تعمل بدأب على جمع الأموال وتجنيد اليهود، كل ذلك تحت أعين الحكومات المصرية. كانوا يروجون بشتى الطرق لقيام "دولة إسرائيل" حتى قبل صدور وعد بلفور المشؤوم عام 1917. وعندما صدر قرار تقسيم فلسطين بين العرب والصهاينة عام 1947، كان الاتحاد السوفياتي من أوائل الموافقين عليه، وكانت هذه الموافقة بمثابة ضوء أخضر للشيوعيين المصريين لتبني هذا القرار. هذا القرار تسبب في انقسام حاد في صفوف الحركة الشيوعية المصرية.
انقسام الشيوعيين المصريين
في تلك الحقبة الزمنية، كانت هناك مجموعات متضاربة، بعضها مدفوعة من قِبَل "يهود صهاينة"، والبعض الآخر يرفض بشدة الوجود الأجنبي واليهودي في الأحزاب المصرية. هنري كورييل، الشيوعي اليهودي، أصبح عرابًا لمجموعات تدعم بقوة قرار التقسيم وتؤيد قيام "دولة إسرائيل". هذه المجموعات شكلت فيما بعد ما عُرف بـ "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني"، أو اختصارًا "حدتو". في كنف هذه الحركة، ترعرع الدكتور رفعت السعيد، الرئيس الأسبق لحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، الذي استقبل الملحق الثقافي الصهيوني يوسي أميتاي في مقر الحزب بشارع كريم الدولة، في قلب القاهرة النابض، في الوقت الذي كانت فيه الطائرات الإسرائيلية تقصف غزة وتتوغل في مناطق جنوب لبنان.
على الرغم من أن خالد محيي الدين كان ضابطًا في سلاح الفرسان بالجيش المصري، ومكلفًا بتدريس مادة التربية العسكرية في جامعة فؤاد الأول، حيث التقى بياسر عرفات ودربه على حمل السلاح في الفترة التي سبقت إعلان دولة إسرائيل في مايو 1948، إلا أنه اختار رفعت السعيد ليكون مساعدًا له في إدارة مؤسسة أخبار اليوم الصحفية، ومساعدًا له في جميع المناصب التي تقلدها في الاتحاد الاشتراكي بعد تأسيس منبر اليسار، ثم حزب التجمع. وسمح له بإدارة الحزب الشيوعي المصري السري تحت غطاء التجمع العلني، في صيغة تعاون فريدة بين الحزبين.
ورغم المعارضة الصريحة من خالد محيي الدين ونواب عن حزب التجمع لاتفاقية كامب ديفيد، ضمن فريق ضم أربعة عشر عضوًا من مجلس الشعب رفضوا توقيع السادات على هذه الاتفاقية، الأمر الذي دفعه لاستخدام صلاحياته الدستورية وحل المجلس، فإن أدبيات الحزب الشيوعي المصري السري كانت تتبنى قرار تقسيم فلسطين بين العرب واليهود.
مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد، والترويج لشعار "مصر للمصريين" والدعوة إلى فكرة العداء للعرب والعروبة، والتبشير بأعوام الرخاء والسلام القائم على العدل، وزعم السادات عدم التفريط في حقوق الشعب الفلسطيني، تدفقت أعداد كبيرة من الصهاينة على القاهرة، قاصدين وسط القاهرة، واختاروا مقهى ريش كملتقى لهم.}
اعتاد الناس أن يشاهدوا الصهاينة يحتسون الشاي الأخضر ويدخنون النرجيلة في مقهى ريش، الذي يحمل في طياته تاريخًا نضاليًا عريقًا يعود إلى ثورة 1919. ففي البدروم السفلي منه، كانت هناك مطبعة للثوار تطبع بيانات الثورة، وكانت أم كلثوم تشدو بأغانيها فيه في بداياتها الفنية، وكان مجلس نجيب محفوظ وندواته الأسبوعية يعقد فيه، وفيه يلتقي المبدعون من أمثال يوسف إدريس وعبدالفتاح الجمل وأمل دنقل، وكل من يكتبون في الجرائد والمجلات في حقبة الستينيات الزاهية.
"زهرة البستان"
مع الزحف الصهيوني المتزايد على مقهى ريش، هجره المبدعون الوطنيون إلى مقهى صغير يقع خلفه، يحمل اسم "زهرة البستان". كان هذا المقهى في الأصل مخصصًا للطبقة العاملة من حراس العمارات وكراجات السيارات وباعة الصحف وماسحي الأحذية. وبفضل تواجد المثقفين فيه، تحول "زهرة البستان" إلى "مقهى المقاومة" ورمزًا لرفض التطبيع القسري مع الصهاينة. أما "ريش" فقد أغلق أبوابه، وانتهت أسطورته، ليصبح "البستان" ملتقى للثوار والمثقفين المعارضين لكامب ديفيد وسياسات السادات، وظل على حاله حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي.
شهدت فترة ما بعد توقيع كامب ديفيد نشاطًا ملحوظًا لفريق من المثقفين والمثقفات، تجسد في تأسيس لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية، برئاسة الدكتورة لطيفة الزيات، الناقدة الأكاديمية والروائية التقدمية المعروفة، وهي من جيل "اللجنة الوطنية للطلبة والعمال" التي تشكلت عام 1946، وتزعمّت النضال الوطني وجعلت النقابات العمالية قوة فاعلة في الحراك السياسي في تلك الحقبة.
استطاعت "لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية" التصدي ببسالة لمحاولات الاختراق الصهيوني لمجتمع المثقفين المصريين، والتحذير من خطورة تذويب الهُوية المصرية العربية. ورغم أن نشاطها كان محصورًا في دوائر الساسة والصحفيين والمبدعين، ولم يصل صوتها إلى الجماهير الشعبية، إلا أن أربع حروب بين مصر وإسرائيل كانت كافية لظهور مواطن يُدعى سعد إدريس حلاوة، نظم احتجاجًا فرديًا ضد وجود "سفارة إسرائيل" على "النيل" بطريقته الخاصة، في إحدى قرى الدلتا. وكتب عنه الصحفي الناصري شفيق أحمد علي كتابًا يوثق نضاله.
عندما تولى الشاعر الرائد صلاح عبدالصبور منصب رئيس الهيئة العامة للكتاب المسؤولة عن تنظيم معرض القاهرة الدولي للكتاب، لم يتمكن من منع "إسرائيل" من المشاركة بجناح في المعرض، ما أثار غضبًا عارمًا في الشارع الثقافي ورفضًا قاطعًا لوجود جناح لدولة الكيان. دار حوار مؤسف بين الشاعر المسؤول في وزارة الثقافة ورسام الكاريكاتير بهجت عثمان، نقله شهود عيان وتناقله الناس في المنتديات والمقاهي. من بين ما قيل في الحوار: "إنت بِعْت يا صلاح، وبِعْت رخيص كمان". فغادر صلاح المكان حزينًا كسيرًا، وفي الطريق أحس بضيق في صدره، ونقله أهله إلى المستشفى حيث فارق الحياة.
صحفي مندس
الأمر المدهش هو ما رواه الكاتب الراحل خيري شلبي في روايته "صالح هيصة"، عن شخصية شاعر وصحفي ظل لسنوات مندسًا في مقهى ريش وأتيلييه القاهرة، متنقلًا وناشطًا في كافة تجمعات المثقفين، وينشر قصائده ومقالاته في الصحف المملوكة للحكومة، ثم اختفى فجأة عن الأنظار ونسيه المثقفون. بعد سنوات، ظهروه في أجهزة التلفزيون يصافح السادات في مطار بن غوريون، ويقدم نفسه باسم نبيه سرحان، مذيع في إذاعة صوت إسرائيل من القدس!
نبيه سرحان هذا كان قد تقدم بنفسه للسفارة الإسرائيلية في اليونان وطلب وظيفة جاسوس، ثم انتقل للعيش في تل أبيب مع زوجته، وكان يقدم برنامجًا على إذاعة إسرائيل ينتقد فيه النظام المصري خلال حرب الاستنزاف، مستمدًا معلوماته من مخابرات دولة الكيان.
التبرير النفسي الذي قدمه للقيام بهذه المهمة القذرة هو أنه تعرض للإهانة والتعذيب في السجن الحربي أثناء فترة خدمته العسكرية الإجبارية. وعندما التقى بالسادات في مطار بن غوريون، طلب منه العودة إلى مصر، ورحب به الرئيس قائلًا إنه يستطيع الرجوع إلى وطنه في أي وقت يشاء.
مرت السنوات، وقام مثقفون بزيارات إلى إسرائيل، أشهرهم الكاتب المسرحي علي سالم، الذي لقي جزاءه من الجماعة الثقافية الوطنية وعاش منبوذًا حتى وفاته. وانخرط فريق من الأكاديميين والباحثين في سفارة إسرائيل بالقاهرة، ومنهم من كان يشارك في الاحتفالات السنوية التي تقيمها السفارة لإحياء ذكرى تأسيس دولة الكيان. وكانت الصحافة الوطنية تفضح هؤلاء، وكان العقاب الذي ينالونه هو الاحتقار والنبذ.
مثقفون مأجورون
مع تعمق العلاقات بين نظام مبارك والنظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وهيمنة الولايات المتحدة على العالم، لجأت إسرائيل إلى طرق أخرى لاستقطاب المثقفين، منها تسهيل التمويل الأوروبي والأمريكي لمراكز تهتم بالدفاع عن حقوق المرأة وحقوق الأقليات. ومن شروط هذا التمويل قبول الآخر والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود.
هؤلاء المتصهينون يمكن تمييزهم من خلال حرصهم الزائف على ما يسمى "السلام" بين مصر وإسرائيل، ورفضهم "الكفاح المسلح" لتحرير فلسطين، وحرصهم على معاداة الثقافة العربية والعروبة، واتهام "الفتح الإسلامي" بالمسؤولية عن هدم الحضارة المصرية وتدمير المعابد ومكتبة الإسكندرية القديمة والقضاء على اللغة القبطية وغرس الثقافة البدوية على ضفاف النيل، والمطالبة بدولة نوبية مستقلة.
هؤلاء نشطوا بشكل مكثف منذ السابع من أكتوبر 2023، وذرفوا دموع التماسيح على القتلى المدنيين الإسرائيليين الذين قتلتهم صواريخ المقاومة الفلسطينية. وهؤلاء ينطبق عليهم القول الشعبي المصري: "اللي اختشوا ماتوا"، والمثل القائل: "اللي ياكل عيش الخليفة، يحارب بسيفه"، ولله في خلقه شؤون.
